د.حمدى جامع.. الغائب جسدًا والحاضر عملًا،،
بقلم : أحمد المنوفى
سُمِّيت شنواى بمركز أشمون، محافظة المنوفية، بقرية العِلم والعلماء؛ كونها تزخر بكوكبةٍ لا بأس بها من الأطباء والصيادلة والمهندسين والصحفيين والمحامين والمعلمين وأعضاء هيئة التدريس بالجامعات المصرية والعربية المختلفة، كما أن بها عددًا كبيرًا من مشايخ وعلماء الأزهر ورجال الجيش والشرطة والقضاء، وذائعة الشُّهرة بكثرة تعْداد المتعلمين، حتى أصبحت شنواى القرية الأوفر حظًا فى التعليم ودون “أميَّة”، فقلَّما تجد شخصًا من أبنائها لا يُجيد القراءة والكتابة.
وإذا أردنا الحديث عن رموز القرية وروَّادِها، فلا نغفل أبدًا مَنْ كان ينتظره أهلها وزيرًا للزراعة فى التشكيل الحكومى المرتقب؛ وهو الدكتور حمدى جامع، رئيس الإدارة المركزيَّة للتشجير بوزارة الزراعة، والذى كان قد تدرَّج وكيلًا لوزارة الزراعة بمحافظة المنوفية، ثم وكيلًا للوزارة بمحافظة بالغربية، فكفر الشيخ؛ ونظرًا لإسهاماته الجليلة وما قام به من جهدٍ مُشرِّف ومُتميِّز فى خدمة هذا القطاع الحيوى والمواطنين على السواء، طوال مسيرته الوظيفية، عُيِّن رئيسًا للإدارة المركزية للإرشاد الزراعى، ثم رئيسًا للإدارة المركزية للتشجير بالوزارة، إضافةً إلى كونه رئيس قسم بحوث الذرة الشامية بمعهد بحوث المحاصيل الحقلية بمركز البحوث الزراعية.
وقد تأتى الرياحُ بما لا تشتهى السفن.. مقولة تحقَّقت فعلًا على تراب قرية شنواى، فبعدما أبحر سكانها بتوقعاتهم لابن قريتهم المناضل فى ميادين العمل الوطنى، والذى تأملوه فى قابل الأيام اسمًا رفيعًا فى الحكومة الجديدة، تبخَّرت طموحاتهم وأحلامهم على أعتاب الأقدار، بعد أن فُجع الجميع بنبأ وفاة الدكتور حمدى جامع، الذى يُعدُّ شعلة نشاط لا تنطفئ أنوارها على محاصيل الوزارة الحيوية، وقبطان وفاء وإخلاص لأهله وبلدته، عرفه القاصى والدانى بشوشًا باسمًا يضىء وجهه الجميع ويغمرهم بالكرم والعطاء، ولا يختلف اثنان على أخلاقه ونزاهته وطهارة يده.
أما عن حياة الرجل الشخصية؛ فهو أخٌ وحيد لأربع بنات جميعهن متزوجات بالقرية، رحل وتركهنَّ على سيرته وسُمعته البيضاء، كما ترك زوجة وولدين وبنتين يحملان خصاله الحميدة التى هى جديرة بالاقتداء، ولمن يعرف الراحل عن قُربٍ يُدرك يقينًا أنه كان حريصًا على صلة رحمه أشد الحرصِ، فلا يركن للعمل على حساب العائلة، دون تقصيرٍ فى أىٍّ من الطرفين، إذ كانت زيارة أخواته وأهله وقضاء متطلباتهم أولوية كعمله، ولاجتهاده منقطع النظير استطاع التوفيق بين العمل والحياة الخاصة.
يحتل الدكتور حمدى جامع مكانةً كبيرةً فى قلوب أهل القرية، فمُحبوه يتغنُّون بعطائه ونشاطه وحيويته، ولن تجد له كارهين لأنه عاش ورحل ولم يعرف الكُره لأحد، رحل الرجل فى ريعان شبابه وترك بصمة بيضاء يتذكرها له كل من له صِلة به أو سمع عنه أبد الدهر، ولكن الموت حق، وليس بوسعنا سوى التسليم بقضاء الله وقدره وسؤاله المغفرة والرحمة له ولجميع موتى المسلمين.
اشتهر الدكتور حمدى جامع بنُبل الأخلاق والكرم الذى ليس له حدود، فقد سخَّر الرجل وقته وجهده وماله من أجل إسعاد الآخرين، كان ينام والهاتف بجانب رأسه مفتوحًا لأجل خدمة قريته، ومن أحاديث مَنْ عملوا معه فى وزارة الزراعة، تعرف أنه كان قائدًا ناجحًا منضبطًا لا يعرف التسيُّب له طريقًا، وأنهم تعلَّموا منه الوفاء والصدق والنزاهة، كما اكتسبوا خبرات ما كان لهم ليتعلَّموها لو لم يكن بينهم، فقد كان مكتبه على مصراعيه للصغير قبل الكبير دون استعلاءٍ أو حتى علامة استفهام.
وعن تجربةٍ شخصية، فقد كنت قريبًا من الدكتور حمدى جامع، وأعرف أنه لا يرد طلبًا لأحدٍ مهما كان هذا الطلب، ويحمل قلبًا طيبًا ناصع البياض، له مواقف إنسانية خالدة لا يمكن نسيانها أبدًا، ومن يعرف قلب الدكتور حمدى جامع لا يستغرب أى شىء أبدًا عنه، وقد نزل علينا خبر وفاته كالصاعقة فى وقت لم يتوقعه أحدٌ، ولم يتهيأ لسماعه أحد، رحل ولم يستأذن أحدًا، ولم يترك لنا مجالًا لنودعه، حيث توفى إثر حادث أليم أثناء عودته من مهمة عمل بمحافظة الوادى الجديد ، نحتسبه عند الله شهيدًا، مات جامع وترك فى قلوبنا جرحًا، وفى عيوننا دموعًا لا تجف.
نسأل الله، عز وجل، أن يرحمه وأن يغفر له ويسكنه فسيح جناته ويلهم أهله وذويه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.